نفط القرن الحادي والعشرين: كيف يحول "علم البيانات" (Data Science) الأرقام إلى قرارات؟


 نفط القرن الحادي والعشرين: كيف يحول "علم البيانات" (Data Science) الأرقام إلى قرارات؟ التصنيف: تكنولوجيا المعلومات | تحليل البيانات عدد الكلمات: حوالي 700 كلمة

في القرن العشرين، كان النفط الخام هو المحرك الذي لا غنى عنه للاقتصاد العالمي؛ كان هو المادة الخام التي شكّلت الصناعات، ورسمت خرائط الجيوسياسة، وبنت الثروات. اليوم، في القرن الحادي والعشرين، نحن نشهد بزوغ "نفط" جديد، لكنه ليس مادة سوداء لزجة تُستخرج من باطن الأرض، بل هو مادة رقمية غير ملموسة ننتجها جميعاً كل ثانية: البيانات.

لكن تماماً مثل النفط الخام، فإن البيانات في حالتها الأولية عديمة الفائدة تقريباً. فالنفط يحتاج إلى مصافٍ معقدة لتحويله إلى بنزين، وبلاستيك، وطاقة. والبيانات تحتاج إلى "علم البيانات" (Data Science) لتحويلها من مجرد أرقام ونصوص متناثرة إلى رؤى ثاقبة، وتنبؤات دقيقة، وقرارات استراتيجية تقود الأعمال والحكومات.

فما هو "علم البيانات" بالضبط؟ وكيف يعمل هذا "المصفاة" الرقمية السحرية؟

ما هو علم البيانات؟

ببساطة، علم البيانات هو مجال متعدد التخصصات يستخدم الأساليب العلمية، والخوارزميات، والأنظمة لاستخراج المعرفة والرؤى من كميات هائلة من البيانات، سواء كانت مُنظّمة (مثل جداول المبيعات) أو غير مُنظّمة (مثل تغريدات تويتر أو صور انستجرام).

إنه ليس شيئاً واحداً، بل هو مزيج من ثلاث ركائز أساسية:

  1. علوم الحاسوب (Computer Science): لجمع البيانات وتخزينها ومعالجتها بكفاءة (باستخدام البرمجة مثل بايثون، وقواعد البيانات مثل SQL).

  2. الإحصاء والرياضيات (Statistics and Math): لبناء النماذج وفهم العلاقات بين المتغيرات واختبار الفرضيات.

  3. خبرة المجال (Domain Expertise): وهو الفهم العميق للسياق الذي أتت منه البيانات (مثل فهم مجال التجارة، أو الطب، أو التمويل) لطرح الأسئلة الصحيحة.

  4. Shutterstock

الشخص الذي يمتلك هذه المهارات المتنوعة يُعرف بـ "عالم البيانات" (Data Scientist)، وهو الذي يقود عملية تحويل الأرقام العشوائية إلى قرارات ذات معنى.

الرحلة من "رقم" إلى "قرار": كيف تتم العملية؟

السؤال الأهم هو: كيف يحول عالم البيانات كومة من الأرقام إلى قرار تنفيذي يتخذه مدير الشركة؟ العملية، التي تُعرف بـ "دورة حياة علم البيانات"، تمر بمراحل واضحة:

1. طرح السؤال (المشكلة التجارية): تبدأ الرحلة دائماً بسؤال. ليس سؤالاً تقنياً، بل سؤال تجاري. "لماذا يتوقف العملاء عن استخدام تطبيقنا؟"، "ما هو أفضل وقت لعرض إعلان لزيادة المبيعات؟"، "هل يمكننا التنبؤ بحدوث عطل في آلة قبل وقوعه؟".

2. جمع البيانات (Data Collection): بمجرد تحديد السؤال، تبدأ عملية البحث عن "النفط الخام". يتم تجميع البيانات من مصادر متعددة: سجلات المعاملات، بيانات استخدام الموقع، استطلاعات الرأي، بيانات وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى بيانات من أجهزة إنترنت الأشياء (IoT).

3. تنظيف وإعداد البيانات (Data Cleaning): هذه هي المرحلة الأكثر استهلاكاً للوقت (غالباً ما تستغرق 80% من المشروع) وهي تشبه "تكرير" النفط. البيانات الأولية فوضوية ومليئة بالأخطاء: قيم مفقودة، تنسيقات غير متطابقة، بيانات مكررة. لا يمكن بناء نموذج دقيق على بيانات "قذرة".

4. التحليل الاستكشافي (Exploratory Data Analysis): هنا يبدأ "الاكتشاف". يستخدم عالم البيانات أدوات التصور (Data Visualization) لرسم البيانات في مخططات ورسوم بيانية. في هذه المرحلة، تبدأ الأنماط بالظهور. قد يكتشفون أن "العملاء الذين يشترون المنتج (أ) غالباً ما يشترون المنتج (ب)"، أو أن "معدل التوقف عن استخدام التطبيق يرتفع في اليوم الثالث بعد التحميل".

5. بناء النماذج والتعلم الآلي (Modeling & Machine Learning): هنا يكمن السحر الحقيقي. باستخدام "التعلم الآلي" (Machine Learning)، يقوم عالم البيانات بـ "تدريب" خوارزمية على البيانات التاريخية لتقوم بالتنبؤ بالمستقبل. على سبيل المثال، يتم تدريب نموذج على بيانات العملاء الذين توقفوا عن استخدام التطبيق لاكتشاف العوامل المشتركة بينهم.

6. عرض النتائج (القرار): لا تنتهي المهمة عند بناء نموذج دقيق. يجب على عالم البيانات أن يترجم هذه النتائج المعقدة إلى قصة بسيطة ومقنعة يمكن لصناع القرار (المدراء التنفيذيين) فهمها. بدلاً من قول "لقد حقق نموذجنا دقة 95%"، سيقول: "تظهر بياناتنا أن العملاء الذين لا يتلقون رسالة ترحيبية خلال الساعة الأولى هم أكثر عرضة لمغادرة التطبيق بنسبة 70%. أقترح أتمتة رسالة ترحيبية فورية".

هنا، تحول "الرقم" (بيانات استخدام التطبيق) إلى "قرار" (تنفيذ رسالة ترحيبية).

لماذا هو "نفط القرن الحادي والعشرين"؟

علم البيانات ليس مجرد أداة تحليلية، بل هو محرك استراتيجي. الشركات التي تستخدمه لم تعد تخمن، بل أصبحت تتخذ قرارات مبنية على أدلة.

  • نتفليكس (Netflix) لا "تأمل" أن يعجبك فيلم ما؛ بل تستخدم علم البيانات لتحليل تاريخ مشاهداتك ومشاهدات ملايين غيرك لتوصي بفيلم تعرف أنك ستحبه.

  • أمازون (Amazon) لا تضع المنتجات بشكل عشوائي؛ بل تتنبأ بما ستحتاجه بناءً على سلوكك وسلوك المتسوقين المشابهين لك.

  • في الرعاية الصحية، يُستخدم علم البيانات لتحليل صور الأشعة الطبية لاكتشاف الأورام بدقة تفوق أحياناً دقة العين البشرية، والتنبؤ بانتشار الأوبئة.

في الختام، البيانات بحد ذاتها ليست القوة. القوة تكمن في القدرة على فهمها. علم البيانات هو المهارة الأساسية للقرن الحادي والعشرين، وهو الأداة التي تمكننا من "تكرير" هذا المورد الجديد لإنتاج الرؤى، وتغذية الابتكار، واتخاذ قرارات أكثر ذكاءً ستقود مستقبلنا.

تعليقات