لقد اعتدنا خلال السنوات القليلة الماضية على التفاعل مع الذكاء الاصطناعي. بدأنا مع مساعدين مثل Siri و Alexa، الذين يمكنهم ضبط المنبه أو إخبارك بحالة الطقس. ثم، جاءت الطفرة مع نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) مثل ChatGPT و Gemini، التي أذهلتنا بقدرتها على كتابة الشعر، وشرح المفاهيم المعقدة، وإنشاء الأكواد البرمجية. لكن كل هذه الأدوات، على روعتها، تشترك في شيء واحد: إنها سلبية (Passive). إنها تنتظر أوامرك، تجيب على أسئلتك، ثم تتوقف.
لكن ماذا لو كان الجيل القادم من الذكاء الاصطناعي لا ينتظر الأوامر؟ ماذا لو كان بإمكانه تحديد هدف، ووضع خطة، واتخاذ إجراءات في العالم الرقمي لتحقيق هذا الهدف بشكل مستقل؟
هذا هو العالم الجديد الذي يدشنه "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" (Agentic AI). نحن لا نتحدث عن مجرد "مساعد" ذكي، بل عن "وكيل" مستقل. إنه التحول من أداة نستخدمها إلى زميل فريق نتعاون معه. هذا المفهوم ليس مجرد تحديث بسيط، بل هو قفزة نوعية قد تكون بنفس أهمية اختراع الويب نفسه.
ما هو "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" (Agentic AI) بالضبط؟
لفهم "الوكيل"، دعنا نفرق بينه وبين "المساعد" الحالي. إذا طلبت من ذكاء اصطناعي توليدي "اكتب لي خطة لرحلة إلى إيطاليا"، فسيمنحك قائمة رائعة بالأماكن والمطاعم. ثم ينتهي عمله.
أما "الوكيل" (Agent)، فستقول له: "خطط لي لرحلة إلى إيطاليا لمدة أسبوع الشهر المقبل بميزانية 3000 دولار". هنا يبدأ الفارق الحقيقي. الوكيل لن يعطيك خطة فقط، بل سيبدأ العمل:
يخطط: يقسّم المهمة إلى خطوات (بحث عن رحلات، بحث عن فنادق، إيجاد أنشطة).
يستخدم الأدوات: يتصل بالإنترنت، يزور مواقع الطيران، يقارن الأسعار، يقرأ المراجعات عن الفنادق.
يتخذ قرارات: يقرر أن الطيران يوم الثلاثاء أرخص، وأن الفندق (أ) تقييماته أفضل ضمن الميزانية.
ينفذ: يقوم (بعد موافقتك المبدئية) بحجز تذكرة الطيران، وحجز غرفة الفندق.
يراجع ويتعلم: يضيف الحجوزات إلى تقويمك، ويرسل لك ملخصاً، وربما يقترح عليك شراء تذاكر المتحف مسبقاً لأنه لاحظ أنها تنفد بسرعة.
الذكاء الاصطناعي الوكيلي هو نظام يمتلك "استقلالية" (Agency). لديه هدف، وقدرة على التخطيط متعدد الخطوات، وذاكرة لما فعله، وقدرة على استخدام "أدوات" (مثل تصفح الويب، أو الوصول لملفاتك، أو استخدام تطبيقات أخرى).
الفارق الجوهري: "التوليدي" هو العقل، و"الوكيل" هو الجسد
من الخطأ الاعتقاد بأن "الوكلاء" هم تقنية منفصلة عن "الذكاء الاصطناعي التوليدي". في الواقع، "الوكلاء" هم التطبيق المنطقي التالي.
الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI): هو "المحرك" أو "العقل" المفكر. إنه بارع في اللغة والفهم والتفكير.
الذكاء الاصطناعي الوكيلي (Agentic AI): هو "الهيكل" الذي يحيط بهذا العقل. إنه يمنح هذا العقل "أيدياً وأرجلاً" رقمية ليتفاعل بها مع العالم، وذاكرة ليتعلم من تجاربه، وهدفاً ليوجهه.
بعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعي التوليدي يمنح "الوكيل" القدرة على التفكير، و"الوكيل" يمنح "الذكاء الاصطناعي التوليدي" القدرة على الفعل.
كيف سيغير "الوكلاء" حياتنا اليومية؟
التطبيقات لا حصر لها، وهي تتجاوز مجرد مساعد شخصي فائق.
في العمل: تخيل أنك مدير تسويق. بدلاً من قضاء أسبوع في تحليل البيانات وإعداد حملة إعلانية، يمكنك أن تقول للوكيل: "أطلق حملة تسويقية لمنتجنا الجديد تستهدف الشباب في الفئة العمرية 18-25، بميزانية 5000 دولار، وقدم لي تقريراً عن الأداء يومياً". سيقوم الوكيل بكل شيء: من كتابة نص الإعلان، إلى تصميم الصور، إلى إطلاق الحملة على المنصات، ومراقبة النتائج.
للمبرمجين: بدلاً من كتابة الكود سطراً بسطر، سيقوم المبرمج بوصف التطبيق الذي يريده ("أريد تطبيقاً لإدارة المهام مع ميزة المزامنة السحابية"). سيقوم "وكيل" برمجي بكتابة الكود بالكامل، واختباره، وحتى نشره على خوادم الويب.
في البحث العلمي: يمكن للعلماء تكليف "وكلاء" بتحليل كميات هائلة من الأبحاث، وتصميم تجارب افتراضية، والبحث عن أنماط في البيانات الجينومية قد تستغرق من البشر سنوات لاكتشافها.
التحديات القادمة: الاستقلالية سيف ذو حدين
هذه القوة الجديدة لا تأتي بلا مخاطر. عندما تمنح نظاماً ما الاستقلالية والقدرة على الوصول إلى أدواتك (بريدك الإلكتروني، حسابك البنكي، ملفاتك)، فإنك تفتح الباب أمام تحديات هائلة:
الأمان: ماذا لو تم اختراق "وكيلك"؟ يمكن للمخترق أن يطلب منه "تحويل كل أموالي إلى هذا الحساب"، والوكيل سينفذ لأنه "وكيل" مطيع.
التحكم (The Alignment Problem): كيف نضمن أن "الوكيل" سيفهم أهدافنا تماماً ولن يتخذ "طرقاً مختصرة" كارثية؟ (مثال "كليب الورق" الشهير: تطلب منه صناعة أكبر عدد من مشابك الورق، فيقرر تحويل كل موارد الكوكب إلى مشابك ورق).
"الصندوق الأسود": إذا اتخذ "الوكيل" قراراً خاطئاً كلف الشركة الملايين، فكيف سنعرف لماذا اتخذ هذا القرار؟ مسألة "القابلية للتفسير" (Explainability) تصبح حرجة.
نستعد لعصر "التعاون"
إن صعود "وكلاء الذكاء الاصطناعي" ليس مجرد ترقية تقنية، إنه تغيير جذري في علاقتنا مع الآلات. نحن ننتقل من عصر "إصدار الأوامر" إلى عصر "تحديد النوايا". قريباً، لن يكون المقياس هو مدى براعتك في استخدام الحاسوب، بل مدى براعتك في تحديد الأهداف وتفويض المهام لوكلائك الأذكياء. المستقبل ليس للذكاء الاصطناعي الذي يحل محلنا، بل للذكاء الاصطناعي الذي يعمل معنا كشريك حقيقي.